محلل نفساني يضع "حلال وحرام" المغاربة على طاولة التشريح
الأب بكل المعلومات للكاتبة، طرح عليها هذا السؤال: "واشْ طْبيبْ كَيْصْلِي؟"، فأجابته الكاتبة بأن هذه مسألة شخصية وليس باستطاعتها الإجابة عن هذا السؤال. فتابع الأب كلامه: "راهْ حْرامْ باشْ يْدْوْزْلْها الى كان مَكَيْصْلِّيشْ".
هذه الظاهرة العجيبة الموجودة في مجتمعنا لطالما لاحظتها؛ ولكن لم أكن أنتظر يوماً أن تصل إلى هذه الدرجة، حيث تصير العقيدة وممارسة شعائرها هي الأخرى شرطاً لاستشارة الطبيب ومعالجة المريض.
ألاحظ أو بالأحرى أسمع في كل مكان: في الشارع، عند البقال، في الأسواق، في الإدارات، في المقاهي، في الحفلات، في القطار، في الطائرة وفي كل المجامع… "اَلاَّ راهْ حْرامْ" و"والله مايْسْمَحْلو رَبيّ" و"والله مَغَدِ يْمْشي هِلْنَّارْ". فمن المستحيل أن لا تسمع، ولو مرة واحدة، إحدى هذه العبارات المعروفة في أي نقاش كان؛ ولو لم يكن موضوعه له أي ارتباط مباشر بشأن ديني!
فالمغربي، سواءً كان صغيراً أو كبيراً، مثقفاً أو أمياً، تراه يُحرم حسب مزاجه ما طاب له؛ فيقول مثل هذه العبارات: "حْرامْ تَكُلْ بْلىَ مَتْقولْ بسم الله"، "حْرامْ تَكُلْ باليد اليسرى"، "حرام تلبس سروال مْزْيَّرْ"، "حرام الرجل يلبس الخاتم"، "حرام العرس يكون فيه الرجال ولْعْيَلاتْ"، "حرام تكون الموسيقى في العرس"، "حرام تَكُلْ وتْخْليِّ الخبز شايْط"، "حرام تْرْبِّي الكلب"، "حرام دِيرْ الرِّيحَة"، "حرام تلبس الشُّوْرطْ"، "حرام المايو" إلخ….
فهنا أضع عدة أسئلة:
1- من الذي يُشرع الحلال والحرام؟ هل الفرد أم الله سبحانه وتعالى؟
2- إذا كان الفرد يحلّل ويحرّم طبقا لنظرياته ومفاهيمه ألا يكون بهذا الشكل قد حل محل الله تعالى والعياذ بالله؟
3- وحتى لو كان الأمر بالفعل يتعلق بشيء محرم من الله، فمن أعطى للفرد السلطة لكي يحكم على أي شخص ويحاسبه؟ هل حصل تفويض أو وحي من الله؟ وإذا كان الجواب نعم. فإذن، لقد أصبح كل فرد في مجتمعنا نبياً ورسولا وله وحي خاص يوحي إليه بالحرام وبالحلال! وإذا كان الجواب "لا". فإذن، لكل مغربي الحق في أن يكون مشرعا في الحلال والحرام، وأن يكون محاميا وقاضيا في الوقت نفسه! ومن سيكون له الحق في الحكم بالحرام أو الحلال في مختلف الحالات؟ هل الله كلّف كل فرد بأن يحكم على الآخرين؟ هل الله يأمر كل فرد بأن يهتم بنفسه ويتبع أوامره أو طلب من كل مؤمن مراقبة تطبيق أوامره على الآخرين ومنحه تفويضاً بذلك؟
4- وكيف يمكن للفرد أن يكون لديه اليقين بأن ذاك الشخص الذي حكم عليه بالنار سوف يُلقى به فِعلا بجهنم في الآخرة؟ هل هذا الفرد له علم الغيب والغيبيات؟ وهل هو شريك الله في علمه ويعلم كيف سيجازي ذاك الشخص؟ وإذا رحمه الله ذلك الشخص وأدخله الجنة فهل سيتجرأ الفرد الذي حكم عليه مسبقاً على الله ويقول له: "أَلا هَدَكْ كافر خَصُّو يْمْشي للنار"! أي غرور هذا حتى يسمح الفرد لنفسه بالتحليل والتحريم والحكم على مصير الآخرين في النار أو الجنة؟
5- وإذا سمح الفرد لنفسه بأن يشرع الحرام والحلال ويحكم على هذا بالنار وعلى ذاك بالجنة، فهذا يعني أنه فرد معصوم من الخطأ ولا يرتكب أي شيء من الكبائر والمحرمات وله علم الغيب، حيث يعلم ما بداخل كل فرد أصدر عليه حكم التكفير!
6- أليس من أسباب التفرقة والفوضى في أيّ دين قيام بعض الأفراد من المنتسبين إليه بانتهاك حرمة السلطة الإلهية فيحرمون ويحللون ويكفرون ويحددون سلفا من سيدخل الجنة والنار؟ أليس هذا النهج هو سبب النفور من الدين وتشتيت شمله ونشوء المذاهب المتناحرة والجماعات المتصارعة ونشر التطرف والتعصب الهادم لبنيان وسلام المجتمعات؟
والغريب العجيب في الأمر هو أن كل فرد يصدر حكم الحرام على سلوك شخص ما، ولا يرى أنه يتحدث عن شخص غائب ويتجاهل كارثة ارتكابه لمعصية الغيبة والنميمة المخالفة لكل الشرائع! هذا هو حال العديد من أبناء مجتمعنا المغربي مع "هذا حرام، هذا حلال".
فما هي أسباب هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعنا؟
سوف أحاول الإجابة عن هذا السؤال حسب تحليلي في النقاط التالية، علماً أنها لا تعكس حقيقة مطلقة؛ ولكن هي فقط لمساعدتنا على التفكير والتأمل ومراجعة سلوك مجتمعنا لنجد حلولا وافية لها:
1- الخلط عند المغربي بين الشريعة والقانون:
أ- الشريعة: تتعلق بأحكام العبادات والمعاملات داخل دين معين، وتختلف من دين إلى آخر؛ فلكل ملة شريعتها الخاصة، وهي محل التزام المتدينين المنتسبين إليها لكنها ليست ملزمة لغيرهم. مثلا، حكم الصلوات الإسلامية الخمس من أركان الإسلام التي تهم المسلمين المغاربة؛ ولكنها لا تسري على غيرهم من المغاربة الذين يحملون عقائد أخرى. وفي الشريعة، لا إكراه وكل فرد هو مسؤول عن نفسه أولا ثم تربية أطفاله القاصرين حتى بلوغهم سن الرشد وليس من حقه أن يفرد عقيدته ودينه على غيره من الناس حتى لو كانوا من داخل عائلته. وعليه، كيف له أن يتهجم على حقوق وحرية شخص آخر بفتاويه عليه مخترقاً هذا المبدأ الذي تقوم عليه الشرائع الإلهية؟ وحينما نسمع فرداً يصدر هذه الأحكام "هَدَكْ حرام وهدا حلال، هَدَكْ غَديِ للنَّار، هَدَكْ حْجُّو مَمْقْبُولْشْ، هَدَكْ صْلاتو مَفَيْتاشْ، إلخ…" أليس هذا بخرقٍ للشريعة وافتراء على الضحايا وتطاول على الله تعالى وظلم لـخَلقه وشرك به بالنسبة إلى من يدعون الإيمان؟
فدور الشريعة هو تهذيب النفوس واحترام الذات والغير ونشر الفضائل الأخلاقية والسلوكيات السليمة والكمالات الروحانية.
ب- القانون: فهو يطبق على كل مواطن مغربي بغض النظر عن دينه أو شريعته أو اعتقاده، وينظر إلى كل المغاربة سواسية بدون تمييز حسب ما نص عليه الدستور الوطني الجامع لكل المغاربة. ولقد خوّل القانون لجهاز القضاء، وهي المؤسسة التي تمثله، حق محاسبة المواطنين والنظر في نزاعاتهم وإصدار أحكام العدالة وتطبيق القانون في شؤونهم. وعليه، لا يملك أيّ فرد مغربي حق التعدي على صلاحيات القضاء أو إنفاذ أيّ نوع من أنواع العقوبات سواء على المواطنين أو المقيمين الأجانب. ولما نرى فرداً يصدر هذه الأحكام "هَدَكْ شْفَّارْ، هَدَكْ كْلَ اليتامى، هَدَكْ غشاش، إلخ…" أليس هذا بخرقٍ للقانون وللعدل وافتراء على الضحايا؟
ج- يبقى المواطن المغربي ممزقاً بين مفهوم القانون وبين مفهوم الشريعة الدينية، وهذا ما يسبب له انفصاماً في شخصيته.
2- غياب اللإنصاف في التربية بين الذكر والأنثى وغياب المساواة بين الأب والأم: إن الظلم يبدأ في المنزل، ومنه تنطلق السلطوية والديكتاتورية الذكورية ضد الأنثى والمجتمع. وهذا ما يسمح للدكتاتوري بإصدار أحكام مطلقة من قبيل: "هذا حرام هذا حلال" و"هذا في جهنم"….
3- غياب مفهوم الاحترام الحقيقي في التربية السائدة في مجتمعنا: احترام الآخر، مهما كانت أفكاره أو معتقداته أو لونه أو جنسيته.
4- غياب التحرر من سلطة الأحكام المسبقة في التربية السائدة.
5- تغييب مبدأ التسامح والتعايش في التربية.
6- العنف اللفظي والمعنوي والجسدي في مناهج التربية المغربية من أسباب تفشي إصدار الأحكام التكفيرية والتعسفية بين الأفراد وهو بمثابة إعادة إنتاج للعنف الذي تعرضوا له منذ الصغر، عِلماً أن العنف مخالف لأحكام الشَّرع والقانون.
فلنربّ أبناءنا على قيم المساواة بين البنين والبنات وبين جميع البشر بغض النظر عن الانتماءات العرقية أو الوجدانية أو الجنسية أو الدينية. لنعلّم أطفالنا مفهوم الاحترام المتبادل وهدم الأحكام المسبقة. لنرسخ في أذهانهم الحس بالانتماء الاجتماعي والإنساني ومبدأ المشاركة والتعاون في بناء مجتمع يسوده الاحترام والمحبة والسلام. ولنعلّم أبناءنا أن ينظروا أولاً إلى سلوكهم فقط بدل الانشغال بعيوب الآخرين ثم يبذلوا جهودهم لتطوير فضائلهم الإنسانية والروحانية. لنزرع فيهم الوعي بأنهم ليسوا قضاةً ليحكموا على الآخرين مهما كانت أفكارهم أو فلسفاتهم أو عقائدهم، وأن لا يروا فيهم سوى أنهم أناس من خلق الله تعالى الذي خلقنا جميعا وما علينا سوى التعايش والتعاون تحت راية الإنسانية. لنُرسخ في أفئدة أبنائنا أن الإنسانية هي عائلة واحدة وواجب كل فرد فيها العمل على وحدتها ورخائها. لنعلم أطفالنا أن يعملوا الأعمال الصالحة عوض الانغماس في الكلام واغتياب سلوك الآخرين بحيث يكون واضحاً لديهم أن زينة الإنسان في الأعمال وليست في الأقوال.
[color=#0000ff]
* طبيب ومحلل نفساني[/color]
[color=#990000]أصوات نيوز //.[/color]