أسلامة أشطوط يكتب ..”حراس لگصر: رحلة عبر الزمن في تاريخ وثقافة قصر آسا”
أصوات نيوز/
“حراس لگصر” ليس مجرد فيلم وثائقي، بل هو نافذة تطل على آلاف السنين من التاريخ الحي المتجذر في عمق “گصر آسا”. إن هذا العمل الإبداعي للمخرجة المتميزة عيدة أحمد مولاي بويا، ابنة مدينة الطنطان، يتجاوز مجرد توثيق للتراث، ليصبح سفرا سينمائيا بين أروقة التاريخ وعظمة الجغرافيا وغنى الذاكرة الشعبية التي تُحكى بلغات شتى: الحسانية، الأمازيغية، والدارجة. ورغم تنوع هذه اللغات، فإن القاسم المشترك بين شخصيات الفيلم هو الإنتماء القوي لهذا الصرح الشامخ، “گصر آسا”، الذي تعود جذوره إلى آلاف السنين.
في هذا الوثائقي، تنقلنا المخرجة برؤية فنية دقيقة وعين تلتقط التفاصيل المخفية إلى عالم يعج بقصص الأجداد، أولئك العظماء الذين مروا من هناك، ثم استقروا عند سفوح الجبال، يراقبون من الأفق بصمت وسكينة، وكأن أرواحهم ما زالت تسكن كل حجر وكل درب في هذا القصر. هنا، لا يُعنى الفيلم فقط بتوثيق الماضي، بل بإحياء تلك الروابط التي ما زالت تمتد من الماضي إلى الحاضر، مؤكدة على استمرارية الذاكرة والهوية.
عيدة أحمد مولاي بويا، ومن خلال عدستها المبدعة، ترسم صورة ملحمية لهذا المكان. فالترحال بين أزقة “لگصر” القديمة يشبه رحلة عبر الزمن، حيث تتشابك حكايات الأجداد بحاضر الأحفاد. يتحدث “حراس لگصر” عن تلك القوة العجيبة التي تربط الإنسان بأرضه، وكيف أن هذا الموروث الغني يعكس هوية معقدة ومتعددة الروافد، تجمع بين الأمازيغية، الحسانية، العربية، والإفريقية. هي حكاية عن أناس عاشوا ببساطة، لكن تاريخهم لم يكن يوما بسيطا.
ومن خلال التركيز على الشخصيات التي لا تزال تحافظ على تقاليد لگصر وتراثه، يقدم الفيلم صورة حية للتحديات التي تواجه المجتمع في الحفاظ على هويته وتقاليده في عصر يتغير بسرعة. تظهر في الفيلم أصوات هؤلاء الحراس، الذين يروون قصصهم بلغاتهم المختلفة، من الحسانية التي تنبعث كنسمة من الصحراء، إلى الأمازيغية التي تردد صدى الجبال الشامخة. ويأتي الحوار بالدارجة ليجمع بين هذه الأصوات، وكأنها أوركسترا تعزف سيمفونية قديمة في تناغم دقيق.
لا يقتصر دور هذا الوثائقي على تسليط الضوء على القصر كمعلم تاريخي، بل يبرز أيضا أهمية الحفاظ على الهوية والثقافة. في زمن يغمره التغيير، يسعى “حراس لگصر” إلى تثبيت الجذور، والاحتفاء بالموروث الثقافي الغني لسكان قصر آسا. إن هذا القصر ليس مجرد أطلال قديمة، بل هو رمز للبقاء، وللحفاظ على الأصالة رغم كل ما مر به الزمان.
وتأتي هذه الرؤية السينمائية لتحمل على عاتقها مسؤولية أكبر؛ فهي ليست مجرد عرض للماضي، بل هي دعوة للمستقبل، تحث الأجيال الجديدة على استلهام التراث الغني والإبداع في الحفاظ عليه. وكما كانت الأرض شاهدة على قصص أبطال مضوا، فإن هذا الوثائقي يُعد أيضا شهادة على أبطال الحاضر، أولئك الذين يواصلون حماية وحراسة هذا التراث العظيم.
ومع تأهله إلى النصف النهائي في مهرجان Mei الدولي للفيلم بالهند، يحقق “حراس لگصر” خطوة إضافية نحو العالمية، حيث يحمل معه صوت الطنطان، وقصر آسا، وكل حكايات الأجداد إلى أبعد الحدود. إنه إنجاز يُضاف إلى مسيرة عيدة أحمد مولاي بويا، التي أثبتت قدرتها على المزج بين الخيال والواقع، لتخلق عملا سينمائيا يلامس القلوب والعقول على حد سواء، ويظل محفورا في الذاكرة كجزء من التراث الوطني الذي يستحق كل تقدير.